“خلف أسوار القصر”.. تحقيق يكشف خفايا الديوان الملكي الذي يُعتبر مركز القرار في المغرب المحاط بالغموض والسرية
نشرت مجلة “جون أفريك” تحقيقا مفصلا حول الدور المركزي الذي يلعبه الديوان الملكي في إدارة شؤون المغرب، ويكشف عن تفاصيل دقيقة حول كيفية تنظيم عمل هذا الجهاز المهيب الذي يظل، في ظاهره، بعيدًا عن الأضواء، لكنه يحمل في طياته تأثيرًا كبيرًا في رسم السياسة العامة.
أوضح التحقيق أن الديوان الملكي يعتبر بمثابة “مركز القرار” في المغرب، حيث يعمل على تنسيق وتنفيذ السياسات الحكومية من خلال عمل دؤوب بين الوزراء والمستشارين الملكيين. ورغم أن الوزراء يباشرون مهامهم داخل الحكومة، إلا أن كل القرارات الاستراتيجية الكبرى التي تؤثر في مستقبل المملكة تتطلب موافقة أو إشراف مباشر من القصر. وهذا يعكس التداخل بين الدور التنفيذي للحكومة والمهمة الاستشارية التي يؤديها الديوان الملكي.
وقالت “جون أفريك” إن الديوان الملكي في المغرب يعد من أكثر مراكز السلطة إثارة للخيال، حيث يقع خلف الأسوار العالية للقصر الملكي بالرباط، متجاورًا مع مقر رئاسة الحكومة. وأشارت المجلة إلى أن هذا التجاور بين المؤسستين يعكس بشكل رمزي الطبيعة التنفيذية للنظام المغربي، الذي يجمع بين الملكية التنفيذية والحكومة التي، رغم صلاحياتها الموسعة منذ دستور 2011، تظل تحت إشراف القصر، إذ تتولى مسؤولية إدارة شؤون الدولة وتنفيذ القوانين والمشاريع الكبرى التي تهيكل البلاد.
وأضافت المجلة الباريسية: “ومع ذلك، يظل الملك، رغم أن عمله وقراراته مؤطرة بدقة وفق الدستور، هو صاحب المبادرة في غالبية الاستراتيجيات الوطنية والحكم الفاصل في القضايا الكبرى، مع انخراط مباشر في المجالات السيادية، مثل الأمن والدفاع والدبلوماسية.”
وذكرت أن الديوان الملكي يضم أكثر من مائة شخص يعملون بتفانٍ مطلق وبأقصى درجات السرية والانضباط. وأبرز التحقيق أن هؤلاء الرجال والنساء، في غالبيتهم، غير معروفين لدى عامة الناس، باستثناء مستشاري الملك محمد السادس. وغالبًا ما شغل هؤلاء مناصب عليا في الإدارة العمومية قبل تعيينهم في الديوان الملكي، الذي يضم حاليًا سبعة مستشارين: فؤاد علي الهمة، أندري أزولاي، عمر عزيمان، الطيب الفاسي الفهري، عمر قباج، عبد اللطيف المنوني، وياسر الزناكي.
وأضافت المجلة أنه “يتم تعيينهم بظهير ملكي، وينتمون إلى دائرة نخبوية تحافظ على طابعها الذكوري الصارم، حيث لم تشغل منصب مستشارة ملكية في تاريخ المغرب سوى امرأة واحدة، هي زليخة نصري.”، فحسب التحقيق، يتمتع أعضاء هذا الديوان بتنوع شخصياتهم وتكامل شبكاتهم، فضلًا عن تعدد كفاءاتهم وخبراتهم.
الوجوه البارزة
وبحسب المجلة، على الرغم من أن جميع المستشارين يتمتعون بالصفة نفسها ولا توجد بينهم أي تراتبية، حيث كان محمد رشدي الشرايبي هو الوحيد الذي شغل منصب مدير ديوان الملك بين عامي 2000 و2001، إلا أن تأثيرهم ليس متساويًا. ويُعدّ فؤاد علي الهمة الأكثر شهرة وربما الأكثر نفوذًا، حسب تأكيد عدة مصادر في الرباط. فقد كان زميل دراسة للملك محمد السادس في المدرسة والجامعة، ومرّ عبر وزارة الداخلية قبل أن يؤسس حزب الأصالة والمعاصرة، الذي أُنشئ لمواجهة الإسلاميين وتقديم بديل سياسي جديد للمغاربة.
وكان الهمة حاضرًا بقوة في المشهد الإعلامي حتى جاءت احتجاجات الربيع العربي عام 2011، وامتدادها المغربي من خلال حركة 20 فبراير، حيث اتهمته بعض القوى السياسية، بحق أو بغير حق، بمحاولة الاستحواذ على الحقل السياسي مستفيدًا من قربه من الملك ونفوذه داخل الإدارة. نتيجة لذلك، غادر قيادة حزب الجرار ليتم تعيينه لاحقًا مستشارًا ملكيًا، في خطوة اعتُبرت رسالة واضحة من القصر تعكس ثقته في أحد أكثر خدامه وفاءً. ورغم تراجع ظهوره العلني اليوم، إلا أنه لا يزال يشرف على أكثر الملفات حساسية بصفته “رجل السياسة الداخلية” للملك محمد السادس، حسب ما ورد في التحقيق.
إلى جانبه، يوجد “عميد” المستشارين، أندري أزولاي، الذي كان صحفيًا ومصرفيًا سابقًا. دخل الديوان الملكي عام 1991 عندما استقدمه الحسن الثاني ليكون الناطق باسم الطموحات الاقتصادية والثقافية للمغرب على الساحة الدولية. ورغم تقلص مسؤولياته اليوم، إلا أنه لا يزال يلعب دورًا بارزًا من خلال ظهوره الإعلامي ومشاركته في العديد من المهرجانات والملتقيات والفعاليات، سواء داخل المغرب أو على المستوى الدولي، حيث يروج لصورة بلد تعددي، فخور بجذوره العبرية، بإسلامه المعتدل، وانفتاحه على العالم.
وجه آخر بارز في الديوان الملكي
وعدّت المجلة الطيب الفاسي الفهري، وزير الخارجية الأسبق، من الشخصيات البارزة في المشهد الدبلوماسي المغربي، بفضل إلمامه العميق بجهاز الدولة الدبلوماسي وعلاقاته الدولية، مما يجعله وجهًا مألوفًا لدى الرأي العام.
أما باقي أعضاء الديوان الملكي، فيتميز بعضهم بتحفظ أكبر، مثل عبد اللطيف المنوني، الفقيه الدستوري البارز، الذي أشرف على إصلاح دستور 2011 شديد الحساسية؛ وعمر عزيمان، الخبير في قضايا العدالة وحقوق الإنسان والتعليم؛ وعمر قباج، الرئيس السابق للبنك الإفريقي للتنمية، المتخصص في قضايا القارة الإفريقية وتحدياتها الاقتصادية؛ ثم ياسر الزناكي، المصرفي السابق في حي المال والأعمال بلندن، الذي تولى وزارة السياحة قبل أن ينضم إلى الدائرة الضيقة للمستشارين الملكيين. وذكر التحقيق انه رغم الشائعات المتكررة حول إبعاده، لا يزال الزناكي حاضرًا في المناسبات الرسمية ومجالس الوزراء.
توزيع المهام: لا تراتبية ولا تخصص صارم
فيما يتعلق بتوزيع المهام داخل الديوان الملكي، قالت “جون أفريك” إنه لا يوجد أي تسلسل هرمي واضح بين المستشارين، كما لا توجد تقسيمات رسمية للمجالات التي يعمل عليها كل منهم، على عكس ما يروج أحيانًا. وأكدت أن الجميع يمكن أن يعمل على أي ملف، وفقًا للأجندات والظروف. يقول أحد المقربين من القصر: “إسناد الملفات يتم بناءً على عدة عوامل، من بينها مدى توفر المستشار، ولكن أيضًا وفقًا لرغبة الملك في تكليف شخص معين بها”
ومع ذلك، وبديهيًا لضمان الفعالية، فإن الملفات تسند غالبًا إلى المستشارين بناءً على خبراتهم وتخصصاتهم: فالدبلوماسية تُسند إلى الطيب الفاسي الفهري، والاقتصاد إلى عمر قباج، والقانون إلى عبد اللطيف المنوني، وهكذا. لكن مع وفاة عدد من المستشارين خلال السنوات الأخيرة، مثل عباس الجراري، محمد المعتصم، وزليخة نصري، أصبح التوجه نحو تعزيز المرونة في توزيع المهام، في انتظار تعيين دفعة جديدة من المستشارين، علمًا بأن آخر موجة تعيينات في الديوان الملكي تعود إلى عامي 2011-2012، عقب أحداث الربيع العربي.
وبحسب المجلة فإنه لا توجد قاعدة محددة لكي يصبح المرء مستشارا ملكيا، فخلال عهد الحسن الثاني، كان الديوان الملكي يُستخدم غالبًا كمحطة انتقالية بين وزارتين أو منصبين رفيعين. إلا أنه منذ أواخر التسعينيات، باستثناء وظيفة مكلف بمهمة التي لا يزال يشهدها بعض التغيير، أصبحت التعيينات في منصب مستشار ملكي بمثابة تتويج لمسيرة وزارية، وشكلًا من أشكال استقطاب القصر للنخب التكنوقراطية ذات الخبرة الواسعة.
ومع ذلك، وعلى الرغم من تجربتهم الثرية ومسيرتهم المتميزة، فإن المستشارين الملكيين يعملون في ظل ظروف متواضعة نسبيًا، على الأقل مقارنة بالمكانة الرفيعة التي يشغلونها. فتعويضاتهم تتماشى مع رواتب كبار موظفي الدولة المغربية، لكنها تظل أقل بكثير مما يمكنهم الحصول عليه لو شغلوا مناصب مماثلة في القطاع الخاص، حسب ما جاء في التحقيق.
وقال إن مكاتبهم داخل القصر متواضعة المساحة، باستثناء مكتب أندري أزولاي، الذي يُقال إنه الأكبر بينها، حيث “ورثه” بحكم أقدميته، بعدما كان يشغله أحمد رضا كديرة، أحد أبرز رجالات الحسن الثاني. وتتميز هذه المكاتب بطراز معماري يجمع بين الزليج والمشربية، إلى جانب أثاث فاخر من طراز لويس الخامس عشر، مصنوع من تطعيمات خشب الورد ومزين بمنحوتات من البرونز المذهب تصور الكائنات الأسطورية وأوراق الشجر.
حكومة في الظل؟
وأوضحت “جون أفريك” أن الديوان الملكي يؤدي دور الدعم لرئيس الدولة في ممارسة صلاحياته السيادية، تحت السلطة المباشرة للملك. ورغم عدم وجود قاعدة قانونية تحدد تشكيله أو تنظيمه بشكل دقيق، باستثناء الظهير الملكي الصادر في 7 ديسمبر 1955، يبقى الديوان خاضعًا بالكامل لتقدير الملك. وفي هذا السياق، أشارت المجلة إلى أن عالم السياسة الأمريكي جون ووتربوري وصف الديوان الملكي بـ “حكومة الظل” إلا أن هذا الجهاز المحوري في السلطة يسعى، في عهد الملك محمد السادس، وخاصة بعد الربيع العربي واعتماد الدستور الجديد، إلى التحلي بأقصى قدر ممكن من الشفافية.
وأشارت المجلة إلى أن أعضاء الديوان الملكي مهام متنوعة تشمل إعداد المذكرات الاستراتيجية، ومتابعة تنفيذ المشاريع الكبرى في المملكة، وصياغة الخطابات والرسائل، وإدارة المراسلات الموجهة إلى الملك، وتنسيق الفعاليات التي تُقام تحت رعايته السامية، إضافة إلى العلاقات الدبلوماسية مع رؤساء الدول. وبالتالي، وكما توضح مصادر “جون أفريك”، فإن الديوان الملكي يتميز بتعدد أدواره، حيث يجمع بين مراكز التفكير، ومكاتب التدقيق الاستراتيجي ومتابعة المشاريع، وديوان الشكاوى، إلى جانب دوره كهيئة دبلوماسية.
وكشف التحقيق عن إحدى الوظائف الأكثر دلالة في الديوان الملكي، وهي إعداد العديد من الدراسات الاستراتيجية حول مستقبل المغرب، سواء كانت متعلقة بسياسات إدارة المياه، أو الطاقات المتجددة، أو الحماية الاجتماعية، أو حتى البنى التحتية الاقتصادية. بالنسبة لكل من هذه المجالات الاستراتيجية التي يتابعها الملك، يتم إعداد الملفات من قبل خبراء ومكلفين بالمهام (حوالي عشرين شخصًا في المجمل)، تحت إشراف المستشارين الملكيين. ولكن مهمة الديوان الملكي في هذا المجال من الاستراتيجيات العامة لا تقتصر على ذلك، بل تشمل أيضًا الإشراف على التنفيذ الجيد للسياسات العامة والمشاريع الكبرى التي أطلقها وقررها الملك. ويقوم بهذه المهمة، وفقًا لمصادر المجلة، بالتعاون مع رئيس الحكومة أو مباشرة مع الوزراء المكلفين بتلك السياسات والمشاريع.
بروتوكول صارم
أكدت نفس المصادر، أنه “حتى الآن، وباستثناء بعض التصريحات غير الجادة من رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران، الذي كان يحرص مع ذلك على عدم الإشارة مباشرة إلى الديوان الملكي، لم يشكُ أي وزير أو رئيس حكومة خلفه من توزيع الأدوار بين المؤسستين. وإذا كان يمكن أن تحدث بعض التعقيدات، كما هو الحال في أي تفاعل بشري في المجال المهني وخاصة السياسي، فإن الحكومة والديوان الملكي دائماً ما يتوصلان إلى إيجاد أرضية مشتركة”.
بحسب “جون أفريك” هناك شيء واحد مؤكد؛ وهو أن التفاعل بين الديوان الملكي والحكومة لا يتم عشوائيًا، بل يتبع، كما هو الحال مع كل ما يتعلق بالملكية المغربية، بروتوكولًا محددًا للغاية. وفقًا لقاعدة الأولوية، إذا كان مستشارو الديوان الملكي يمكنهم زيارة رئاسة الحكومة، التي تقع مكاتبها بالقرب، فإنهم لا يذهبون أبدًا إلى الوزارات. بل يأتي الوزراء إليهم لتقديم تقارير عن تقدم السياسات العامة أو المشاريع. باستثناء حالات نادرة، عندما يريد الملك أن ينقل عبر أحد مستشاريه رسالة إلى أحد الوزراء. هذه هي هيكلية صارمة، تُظهر الدور المركزي وتفوق القصر في تنظيم الشؤون العامة. في الواقع، هو الديوان الملكي الذي يعطي الضوء الأخضر للوزراء لإجراء الزيارات الرسمية إلى الخارج، بعد موافقة رئيس الحكومة…
كذلك، ذكرت المجلة قاعدة بروتوكولية أخرى؛ أي عندما ينتقل الملك عبر البلاد، يرافقه الديوان في تنظيم لوجستي مثير للإعجاب ومُنظم بدقة، من الطابعات إلى الحواسيب، مرورًا بالملفات والموظفين، يتم نقل كل شيء كإجراء احترازي، ولكن أيضًا لضمان استمرارية كاملة في اتخاذ القرارات وتنفيذ المهام اليومية. ووصفت ذلك بـ “تجوال السلطة والمحكمة الموروثة من التقاليد العلوية، التي تقول بأن عرش سلاطين المغرب يوجد على سرج خيولهم، كما كان يكرر الراحل الحسن الثاني، وترمز إلى إرادة الحفاظ على رابط مباشر ودائم بين الملك وشعبه”.
مقياس الزلازل الاجتماعي
تقول مصادر “جون أفريك” إن كتابة الخطب الملكية هي أيضًا واحدة من المهام المهمة للديون الملكي، حيث تعكس هذه الخطب بشكل مثالي دقة ووضوح الرسالة التي يتوقعها الملك. وبما أن المواضيع يتم تحديدها مباشرة من قبل الملك، فإن النصوص هي ثمرة عمل تعاوني يشمل العديد من الذهاب والإياب لضمان رسالة واضحة، ملهمة، ومتوافقة مع الرؤية الملكية. كما يدير الديوان الملكي “التواصل” الملكي، من خلال إصدار البيانات الصحفية، حيث يتواجد خلف هذه البيانات بشكل عام شخصان معروفان في المشهد الإعلامي: الصحفي والرئيس السابق لمكتب وكالة المغرب العربي للأنباء في باريس، شكيب لعروسي، والمعلن السابق، الذي عمل في وكالة كليم، كريم بوزيدة.
وأوضحت المجلة أن الديوان الملكي يتعامل يوميًا مع مئات الرسائل الموجهة إلى الملك من المواطنين المغاربة، الشخصيات الأجنبية أو المؤسسات الدولية. وحسب أحد المقربين من الديوان فإن التعامل مع هذه الرسائل الذي يتم يدويا بالكامل، يشمل فريقًا يقوم أولاً بتصنيفها حسب الموضوع، مثل طلبات العفو، الشكاوى الاقتصادية أو القضايا الاجتماعية. ثم تخضع هذه الرسائل لفحص دقيق، قبل أن يتم تقديمها إلى المستشارين، الذين يجتمعون بانتظام لتقديم اقتراحات بشأن الإجابات الأكثر عدلاً وملاءمة، والتي سيصادق عليها الملك لاحقًا.
يقول أحد علماء الاجتماع إن “الديوان الملكي، الذي يضع نصب عينيه التعامل مع جميع الرسائل التي تصله، يعمل كمؤشر اجتماعي أو مقياس زلازل”. وهذا يسمح للملك، ليس فقط بمواصلة تمثيل الملاذ الأخير ضد الظلم المحتمل، ولكن أيضًا بالبقاء على تواصل مع اهتمامات المواطنين.