الثامن من مارس … فرصة أم صفعة نسائية؟
. الثامن من مارس يحيل على النساء كقاسم مشترك بين كل الإحالات والدلالات المتعددة، من “عيد” للمرأة، إلى مناسبة لحقوق المرأة أو النساء، إلى يوم تاريخي يذكر بنضالات العاملات وموتهن من أجل الحقوق، إلى مناسبة لتقييم السياسات العمومية والقوانين الوطنية والأممية، إلى فرصة لمقارعة النظريات والأفكار، بل أصبح يعرف انزياحات دلالية تماشيا مع تشيئ الإنسان والانزلاق به إلى عالم التسويق فيتحول إلى فرصة لتعزيز رقم المعاملات. ومن الدلالات التي بدأت إشكاليات حقوق النساء ومناسباتها هي تلك المرتبطة بما يمكن تسميته بالاعتقال السياسي الجنسي. لم أجد عبارة أخرى لتشمل معنى ما نعيشه هذه السنوات. ظاهرة متابعة نخب من كل الأطياف الفنية والأدبية والفكرية والسياسية عبر العالم. وتأججت هذه المتابعات والفضح مع حركة MeeToo الأمريكية. وتعرت فضائح وفضاعات النخب. ولكنها تبقى مناسبة تضعنا أمام أنفسنا، أمام التمييز والتنقيص من قيمة النساء الرمزية فقط لأنهن إناث، أمام فضاعات المجتمع الأبوي الشرس الذي يجعل من كل اختلاف مبررا للتمييز. ” ما كيحس بالمزود غير المضروب به” هذه العبارة الدارجة المغربية بليغة جدا، لكن هذا لا يعني أن النساء وحدهن قادرات على معرفة النساء وعلى الدفاع عنهن، أبدا. ولكن الإحساس بالظلم وأثره لا يمكن لأحد أن يعيشه كما النساء.
. منذ تبني الحركات النسائية عبر العالم وببلادنا إشكالية العنف المبني على النوع، استهدفت أمرين أساسيين من وراء ذلك، الأول وهو أن حقوق النساء مسألة سياسية بامتياز وليست أسرية، أي أن حلها لا يكون إلا في الفضاء العمومي وليس في فضاء الأسرة، والثاني ولكي تصبح مسألة العنف مسألة سياسية لا بد أن يتم فضح ممارستها في كل مجالات الحياة من الأسرة إلى العمل والشارع…الخ. وعليه فقد جعلت الحركات النسائية من المعركة ضد العنف المبني على النوع معركة شاملة من أجل المساواة والحرية في التعبير والممارسة. فتحول كل تمييز أو إقصاء عبارة عن عنف وكل استغلال لحقوق النساء في غير أهدافه ومقارباته عنف أيضا. إذ نتكلم على العنف الجسدي والنفسي والقانوني والسياسي والثقافي والاقتصادي.
3. فقد تختلف الحركات النسائية في مجموعة من التقديرات و التمثلات، ولكنها لا تختلف في الأصل ألا وهو الحق في المساواة بين النساء والرجال ومناهضة جميع أشكال التمييز. وكم هي عديدة الاختلافات بين النسائيات ببلادنا. هناك نسائيات تعتبرن أن المساواة ممكنة وإن غابت الديمقراطية معتمدات على التفاوض والاقتراب من مراكز القرار مقدرات أن من شأن ذلك أن يمكنهن من تحقيق ما قد يعجزن عنه بالنضال والمعارضة. وقد يتحالفن مع أي كان وكيفما كان لبلوغ ذلك وإن على حساب احترام مستلزمات دولة الحق والقانون. وهناك نسائيات يعتبرن أن المساواة بين الجنسين مسألة سياسية لا تبنى إلا على تعزيز الديمقراطية وأن النسائية والديمقراطية متلازمتان تغذي الواحدة الأخرى وعليه فالنضال النسائي لا يمكنه أن ينفصل عن النضال من أجل الدمقرطة السياسية والمجتمعية. وهناك تمايزات متعددة بين هذين الحدين، فهناك نسائية لا تؤمن بالعمل داخل المؤسسات اعتبارا منها أنها مجرد ماكينات لتطويع النخب، وهناك نسائيات فئوية. غير أن هذه المكونات لا تزال ضعيفة الأثر. وكل هذه الأشكال لا يمكنها إلا أن تغني مسار العمل من أجل إشعاع ثقافة المساواة بين النساء والرجال وإحداث التغيير المنشود للتحديث والدمقرطة.
4. ومن باب التذكير، لابد في هذه المناسبة من التأكيد على الأدوار الهامة التي لعبتها الحركة النسائية المغربية التحديثية منذ ميلادها مع بداية الثمانينات في تحديث النقاش العمومي وتنشيطه، بل يمكن القول إنها ضخت دماء جديدة فيه ومنحته وهجا وألهبته حماسا غير معهود. وهذا لا يمكن أن ينكره إلا جاحد. وكان لليساريات واليساريين دور كبير فيه. طيلة أربعة عقود يمكن القول إن هذه الحركة كانت فاعلا عموميا قويا. تحقق ما تحقق، ولكن المساواة بين النساء والرجال تتعدى نضالات حركة نسائية، بل هي مشروع مجتمعي يحتاج لحلفاء سياسيين يساريين حقيقيين على كل الجبهات. لكننا اليوم نعيش مع ما نعيشه من تفتت بل تفكك قوى التحديث مع تعزيز الفردانية وتصدير الذاتي على المصلحة العامة والمشترك.
5. هذه الحركة قد أصابها الوهن هي أيضا في سياق استنزاف عام للفكر اليساري على المستوى العالمي ووطني ايضا. فبعدما كانت سباقة تشق الطريق أمام المساواة بين النساء والرجال، تؤثر في مؤسسات الوساطة وفي الدولة وفي المجتمع، اكتفت خلال ما يزيد عن عشر سنوات في مجمل ما تبقى من عملها بما يسمى بالمرافعة معتبرة أن ذلك سوف يمكنها من أن تبلغ أهداف المناصفة وكأن الأمر مجرد وجود عددي وقوانين ومساطر، وإنجاز تقارير، وندوات في ردهات الأوطيلات. فلم تعد قادرة على التجديد، مما زادها تفكك على تفكك. ودخلت في منطق منافسة السوق عوض الرسالة الأساسية للحركة لاهثة وراء إنجاز مستلزمات المشاريع. وداخل نفس التنظيم، أصبحت الصراعات نحو المواقع تحتد، وتجديد الأجيال شبه منعدم وهلما جرا. وسادت النسائية المركزية غير معترفة بالنسائية الترابية إلا باعتبارها طابورا للمساندة… وبعدما كانت الحركة النسائية حركة سياسية، بدأت تتحول إلى حركة تكنوقراطية تسيرها خبيرات. إن للخبرة بالتأكيد أهمية كبيرة، فلا يمكن نكران ذلك، وبالخصوص، جل هؤلاء الخبيرات تمرسن على ذلك أثناء نضالهن السياسي الملتزم. فهن يشكلن نقطة قوة وليس ضعفا. والأمر لا يتعلق بالأفراد ولكن بالمنحى العام للحركة. إن مساءلة هذه التحولات مسالة ضرورية نحتاجها لكي نتقدم. وقد بدأت تصيبها بعض أوجه المحافظة لأنها ارتكنت لسلك الطرق المعبدة. والعديد من مناضلاتها تجاوزتها التكنولوجيا وما تستلزمه من تحولات في أشكال العمل.
6. هذه هي حالنا اليوم كحركة نسائية، فما العمل إذن لإيقاف هذا التحول التكنوقراطي واستعادة النسائية لطابعها السياسي؟ وبالخصوص مع تعرفه الساحة العمومية من تحولات جراء الفيضان الرقمي الذي نحن غارقون وغارقات فيه والذي لا نتقن استعماله ولا نعرف تحدياته. إن هذا السؤال يحتاج لأجوبة نقدية جريئة من لدن الحركة النسائية بغية نسج حكاية نسائية مغربية منسجمة تتقفى منعطفات التغيير والتقدم في العلاقات الاجتماعية بين النساء والرجال. فأول ما يجب القيام به هو تنمية ثقافة العرفان تجاه الجيل الأول والثاني من النسائيات، الأول وهو جيل النساء الوطنيات من أخوات الصفا والاتحاد النسائي المغربي، والثاني وهو جيل النسائيات اليساريات. وترصيد الإرث النسائي ببلادنا مهمة تاريخية على عاتق الباحثات والمناضلات من الجيل الجديد. والهدف من ذلك متابعة كتابة حكاياتنا النسائية المغربية كمتراس ضد الحكايات الأبوية التي لا ترى في النساء إلا كائنات من الدرجة الثانية وفي خدمة الرجال. هذه الحكاية/الحكايات يجب أن تنفتح على المستقبل برسم الحلم/الاحلام بمجتمع العدالة والمساواة، مجتمع الحداثة والديمقراطية اللتين تشكلان نور معاركنا ووجودنا. هذا الحلم يصبح ممكنا بتنمية ثقافة المشترك والتقارب والتقاطع بين مكونات الحركة النسائية عوض ثقافة الإجماع التي أصبحت غير ممكنة. وان نعرف بأن عملا مشتركا أجدى بكثير من عمل فردي مهما كانت جودته وأن كتابة بيان بانفراد من لدن جمعية ما وإن كان لا يخلو من أهمية، فإن أثره يبقى ضعيفا إن لم نقل منعدما، وأن العمل بمنطق إنقاذ ماء الوجه والوجود من أجل الوجود لا طائلة منه. إن الحركة النسائية دينامية جماعية مبنية على استراتيجية واضحة على المدى المتوسط والبعيد. فما هي أهدافنا وانتظاراتنا في أفق 2030، الأفق الذي وضعته الأمم المتحدة في أجندة أهداف التنمية المستدامة؟
7. إن كل أزمة تحبل بفرص جديدة للتغيير. ومن أجل ذلك لا بد من البحث في الظروف الجديدة عن الإمكانيات المتاحة لبلوغ رسالة الحركة النسائية والأشكال الجديدة لإحداث التغيير. وقبل ذلك لا بد من التذكير بأن قوة الحركة النسائية في استقلاليتها السياسية والمالية، وفي قوة احترامها للديمقراطية الداخلية. فما هي التحديات الحالية والمستقبلية للعمل النسائي؟ إن أول تحدي هو التحدي التنظيمي لمكونات الحركة النسائية التي تحتاج لتجديد نخبها، فالتنظيمات التي يقف استمرارها على بضعة أشخاص يستحسن أن تحل نفسها على أن تستمر في نشر ثقافة السكون والتكرار، لماذا؟ لأن النسائية أُنطولوجيا دينامية شديدة النقد من أجل التغيير، واي ركود ينطوي على مخاطر من شأنها تغذية المحافظة داخل الحركة، هذه المحافظة التي تشكل أكبر خطر على رسالتها الأساسية، أي المساواة بين النساء والرجال. والتحدي الثاني ويتمثل في الاشتغال على طرق ومناهج جديدة لبناء العمل المشترك للحركة بدءا بتفكيك ثقافة التراتبية بين المركز والحواشي؛ والثالث له علاقة بالتأثير على الدولة ومؤسساتها لاحترام تعهداتها الدولية والوطنية بدون استثناءات وما يستلزمه ذلك من ملاءمة للتشريعات الوطنية وأن تخصص وزارة بقضايا المساواة المبنية على النوع وجعل هذا الأمر أولوية. والرابع بالاشتغال على ما تخلقه التكنولوجيا من أشكال جديدة للسلطة الأبوية وما تتيحه من إمكانيات العمل على خلخلتها وتفكيكها. والخامس بالانخراط في القضايا المجتمعية العادلة وقضايا الديمقراطية واعتبارها قضايا نسائية ذات أولوية لا تقل أهمية عن غايات وجودها، لمد الجسور بين روافد حركة التحديث والديمقراطية.
8. وانسجاما مع ما سبق، لا يمكن أن نستمر في سياسة النعامة تجاه ما يحاك أحيانا باسم قضايانا كنساء ضد دولة الحق والقانون الديمقراطية التي ننشدها جميعا وتحويلها إلى كائن مزاجي يترنح على كل الحبال. ويتعلق الأمر ها هنا بالاعتقالات بتهمة العنف الجنسي. أولا يجب التذكير بأن فضح هذا الشكل من العنف على النساء من لدن النخب وبالخصوص السياسية والثقافية منها أصبح منتشرا عبر العالم، على سبيل المثال لا الحصر، طارق رمضان، فؤاد العروي، ديسك رئيس صندوق النقد الدولي، جاكوب زوما رئيس أفريقيا الجنوبية السابق، وغيرهم كثير، منهم من حوكم ومعظمهم توبع ولم يحاكم او لم يتابع أصلا. ولأن خلف كل سلطة معنوية أو مادية كانت، هناك شكل من أشكال العنف يتربص بالنساء، فإن ذلك لا يعطي الحق بالجزم أن العنف الجنسي أكثر شيوعا لدى هذه الفئات من باقي فئات المجتمع. فالمحامي زيان مثلا، أو الصحافي سليمان الريسوني، أو عمر الراضي وغيرهم من المتهمين بالعنف الجنسي ضد النساء أو غيرهن ليسوا منزهين باعتبار مهنهم أو ثقافتهم مما نسب إليهم مثلهم مثل باقي من يمارسون العنف الجنسي في المجتمع داخل جميع الفئات والطبقات. ولكن هناك أمر ما لا يجعل ضمائرنا مرتاحة نحن النساء في هذه الاعتقالات الأخيرة. هناك أمر ما غريب في اعتقالهم لأن هناك قواسم مشتركة بينهم جعلت تحريك مسطرة الاعتقال ضدهم وحدهم وليس ضد غيرهم ممن اقترفوا جرائم الاغتصاب الجنسي التي من “أجلها اعتقلوا“. ولنفرض أن كل التهم المنسوبة إليهم صحيحة وثابتة، فلما لا يتم تحريك دعاوى كما فعلت النيابة العامة في حالتهم ضد كل من اقترفوا ولا يزالون مثل هذه الممارسات. ولكن لماذا هؤلاء بالضبط وما المشترك بينهم جميعا؟ إن القاسم المشترك بينهم هو مواقفهم السياسية المعارضة التي تشكل المحرك الرئيسي لمحاكمتهم. يراد إسكاتهم وعبرهم إسكات الأصوات الحرة. ولهذا فإن اعتقالهم اعتقال سياسي لا غبار عليه يحتاج للتضامن معهم انتصارا لحرية الرأي التي ما أحوج ببلادنا إليها. إننا نشهد تحولا في مصوغات الاعتقال السياسي ببلادنا، من الاعتقال بتهمة الإخلال بالأمن العام للدولة في القرن الماضي، إلى الاعتقال بتهمة الإخلال بالأمن الجنسي للنساء. غير أن الغاية السياسية الأصلية في اعتقال كل من الراضي وسليمان وزيان وغيرهم تشكل إدانة للدولة أولا على شططها في استعمال السلطة وعدم نزاهتها وقمعها لحرية التعبير ضد مواطنيها، ولكن هذا الأمر لا يعفي المعتقلين من مسؤولية تهم العنف الجنسي إن ثبت ذلك حقا.
9. إن الثامن من مارس يشكل لنا جميعا فرصة كل سنة لنتلقى صفعة الضمير النسائي بالمعنى السياسي للمقولة، أي بدلالتها التغييرية من أجل مجتمع حداثي ديمقراطي مساواتي يقطع مع السلطة الأبوية المتخلفة.