افتتاحية- بعد 100 يوم من تنصيبه.. هل ظهر لأهل آسفي عرق العامل الجديد؟

الجهة 24 – هيأة التحرير
منذ أن وطأت قدماه مقر عمالة إقليم آسفي، آثرت هذه الجريدة منح العامل الجديد، محمد الفطاح، فسحة من الوقت قبل إصدار أي حكم أو تعليق على ممارساته، إيمانًا بأن لكل تجربة سياقها الخاص وبأن الإنصاف يقتضي منح المسؤول الجديد هامشًا للعمل والتخطيط. لكن مرور مائة يوم – وهي الفترة التي اعتاد المراقبون اعتبارها معيارًا أوليًا لتقييم الأداء – يجعل من الضروري الوقوف عند بعض ملامح هذه التجربة ورصد توجهاتها الكبرى.
“الزمن ليس وعاء يمر فارغا، بل هو مادة التغيير الخام التي تصاغ بإرادة القائد ورؤيته.” بهذه الكلمات لخص الفيلسوف الألماني هيجل فلسفة الزمن في مسار التاريخ. فمائة يوم ليست مجرد رقم عابر، بل هي محك يختبر فيه صدق النوايا وقدرة الإدارة على تحويل الخطاب إلى فعل. فهل استطاع العامل الجديد محمد الفطاح أن يصوغ زمنه في آسفي، أم أن الأيام مرت كسحابة صيف لم تثمر غيثا؟
حينما تولّى ونستون تشرشل قيادة بريطانيا في أحلك لحظاتها، خاطب شعبه بواقعية قاسية: “ليس لدي ما أقدمه لكم إلا الدم والعرق والدموع.” تلك كانت رؤية قائد يدرك أن التغيير الحقيقي لا يأتي بوعود وردية، بل بعمل دؤوب وشاق. فجاءنا محمد فطاح، مستندًا على هذه المقولة في أول خطاب يليقه بعد توليه عمالة الإقليم، فهل يعنيه فطاح ما كان يعنيه تشرشل؟
حين أعلن تشرشل عن “الدم والعرق والدموع”، لم يكن يبيع الوهم لشعبه، بل كان يزرع فيهم روح المقاومة برؤية واضحة تقدر ثقل التضحيات. لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: أي عرق هذا الذي يتحدث عنه العامل الجديد؟
دخل العامل محمد الفطاح مكتبه وأغلقه بإحكام، فظل بعيدًا عن الأنظار، لا يظهر في الفضاء العام إلا نادرًا، ولم تتضح بعد ملامح مشروعه التدبيري للإقليم. صحيح أن الإدارة ليست بالضرورة “استعراضًا بصريًا”، لكن العزلة الطويلة تثير تساؤلات مشروعة حول مدى انخراطه في دينامية الإقليم ومشاكله.
أما السلطة شجرة لا تثمر إلا إذا سقيت بدماء القرارات الجريئة، لكن ما حدث في آسفي يشي بغياب البذرة نفسها. فملفات كسبت جزولة المتفجرة، وأزمة المياه التي تجف منها حنفيات السكان، والمشاريع الملكية المتعثرة التي صارت شواهد على الإهمال.. كلها تنتظر من يلمسها بيد تعرف أن الفلسفة الحقيقية للحكم – كما قال كونفوشيوس – “هي أن ترى المعاناة فتشحذ الإرادة لمعالجتها”.
إنّ معاناة آسفي ليست مجرد أرقامٍ تُسجل في تقارير، أو ملفاتٍ تُغلق بأحبارٍ جافة. إنها قصص إنسانية ترويها دموع الأمهات الثكالى، وصمت الشباب الذين فقدوا الأمل في غدٍ أفضل. إنها صرخاتٌ تعلو من كورنيش المدينة، الذي تحوّل من مكانٍ للاستجمام إلى شاهدٍ على اليأس الذي يلفّ أبناء هذه الأرض. فكيف لنا أن نتحدث عن التنمية وعن المستقبل، ونحن نشهد شبابًا يختارون الموت على الحياة؟ كيف لنا أن ننشد التقدم ونحن نرى الأمل يغادر القلوب، تاركًا خلفه فراغًا قاتلًا؟
هذه المعاناة في آسفي، فقد بلغت مستويات غير مسبوقة، تتجلى في مظاهر فقدان الثقة، وانعدام الأمل لدى فئات عريضة من شباب هذا الإقليم المكافح، جراء البطالة الجماهيرية في الإقليم، وتوقف كل الأوراش وإقصاء أهل المدينة من فرص الشغل، وإن ذلك أكيد له ارتباط مباشر بارتفاع حالات الانتحار في صفوف خيرة شباب هذه الأرض السعيدة، فحتى المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي تقول العمالة في التقارير إنها صرفت لأجلها 70 مليون درهم، فلا أثر لها على أرض الواقع اليوم.
في هذه الفترة، لم نشهد تحركات ملموسة لمعالجة ملفات حساسة مثل تضارب المصالح داخل الجماعات القروية، ولم يُقتحم بعد ملف سبت جزولة، ذاك المعقل السياسي والاجتماعي الذي باتَ يُشكل اختبارًا حقيقيًا لأي مسؤول جديد يسعى إلى إحداث فرق في هذه المدينة. كما لم يطرأ أي تحول جوهري في المشاريع الملكية المتعثرة بالإقليم أو في معالجة أزمة المياه التي تؤرق الساكنة.
أما الفساد الذي هز مديرية التعليم في آسفي، واتضحت صورته في عهد العامل الجديد، فإنه يكشف “قنبلة موقوثة” في هذا القطاع الاستراتيجي، الذي جرى الاستيلاء عليه محليا من قبل “كائنات سياسية جافة” تسعى إلى تنمية رصيدها السياسي والشخصي، بعدما استولت على مناصب في المديرية بطرق مشبوهة وفي ظل “اتفاقات سياسية” فيها رائحة الانتخابات، رغمَ أنها دون كفاءة ولا خبرة تذكر، وذلك ما أفرز “بالونة” الفساد بالقطاع، ولائحة الموظفين الأشباح، وسوء التدبير التربوي، وشبهات تضارب المصالح، واختلالات في الصفقات، وكل هذا، كان يتطلب، تحرك مؤسسة العامل بشكل علني تُزكى معه هبة الدولة ودور العمالة الرقابي.
ما لفت الأنظار، في المقابل، هو التركيز اللافت على الجانب الأمني، إذ شهد الإقليم حملات مشددة لمنع التظاهر السلمي وتطويق العمالة أمنيًا ومنع الاحتجاج أمام ساحتها التاريخية، في قرار يضرب أسمى قانون في البلاد ألا وهو الدستور، فضلًا عن استهداف صغار التجار ضمن حملات “تحرير الملك العمومي” التي بدت انتقائية وغير شاملة. وإذا كانت سلطة القانون تقتضي فرض النظام، فإن الفلسفة الإدارية الحكيمة لا تكتفي بالعصا وحدها، بل تحتاج إلى توازن بين الضبط والتنمية.
يقول الفيلسوف الإيطالي نيكولو مكيافيلي: “السياسة هي فن إدارة الممكن.” لكن الممكن لا يصنع نفسه، بل يحتاج إلى رؤية جريئة وقدرة على اتخاذ قرارات صعبة. واليوم، بعد مرور مائة يوم، لم تتضح بعد معالم السياسة التي ينتهجها العامل الجديد في تسيير الإقليم. فهل نحن أمام فترة تحضيرية هادئة تسبق انطلاقة حقيقية؟ أم أن الغموض والتردد هما عنوان المرحلة؟
إن الصحافة، بوصفها سلطة رابعة، لا تسعى إلى التجريح أو تصفية الحسابات، بل إلى تسليط الضوء على مكامن الخلل ونقل نبض الشارع. ومن هذا المنطلق، يبقى السؤال مطروحًا: متى سيرى سكان آسفي “عرق” المسؤول الجديد على أرض الواقع، بدلًا من أن يقتصر الأمر على غرف مغلقة وملفات مؤجلة؟