أحمد المرزوقي يكتب: جيل بيرو… من تازمامارت إلى نورماندي
كنّا في بقعة من بقع جحيم الدنيا ننتظر حتفنا، وهو يلوح لنا بالقدوم ساعةً بعد أخرى، فيأتي لحظةً ويخطف أحدنا، ثم يغيب فترة ليعود ويفعل ما اعتاد أن يفعله. غير أننا في تلك الفترة كنا نحن من قَدِمنا عنده مستسلمين متوسّلين إليه أن يُجهز علينا بسرعةٍ ليخلّصنا من عذاب مقيم كان يطحن عظامنا النخرة بعجلاتٍ فولاذيةٍ أمضى من حدّ سيفٍ مسقيٍّ بسمٍّ زُعاف.
كان المطاف قد انتهى بنا أن أصبحنا جيفا آدمية نتنة، تعبّر عما بقي فيها من رمق ضئيل للحياة هياكل عظمية مخلخلة المفاصل، يكسوها جلدٌ يابسٌ مدبوغ بالجوع والألم، وعيون منطفئة شاخصة في محجريْها، تدور بين حينٍ وآخر في كل الاتجاهات مثل زئبقٍ ملسوعٍ بنار. وكان حرّاسنا الأشاوس (في تازمامارت) قد سئموا الدخول عندنا، بعدما تلكّأ الموت في تلقّف البقية الباقية منا، حيث زكمت نتانتُنا أنوفهم، واخترقت صدورهم، وأصابت رؤوسهم بالدوار والغثيان، فشكوا بلواهم إلى المدير الذي سارع بإخبار من فوقه. وكان ديدنه كلما خمدت أنفاس أحدنا يتكلّم مع رئيسه بهذا الكلام المشفر: انكسرت قنينة كولا. … فيجيبه المسؤول بلا مبالاة: ارمِ الشظايا.
واستجاب له المسؤولون الوطنيون ذوو البذلات الأنيقة المعطّرة، وأرسلوا إلى المعتقل الرهيب لجنة من ستة ضباط رفيعين لتدارس الطريقة المُثلى للإجهاز علينا، هل بالسمّ أم بالشنق أم رميا بالرصاص. وبدأ الحفر وسط ساحة السجن الداخلية، لتهيئة مقبرة جماعية، بعد أن غصّت جنباتها بقبور الضحايا. وجاءنا الحارس “السر الفر” ذات صباح، مستبشرا متهلّلا يزفُّ إلينا الخبر السعيد، وهو مخبر مزدوج، كان يعمل لصالحنا ولصالح المدير: الحمد لله على سلامتكم.. لقد جاء الخلاص… ولما سألناه عن هذا الخلاص، أجاب بحماسٍ زائد: سيقتلونكم قريبا.. لقد سمعتهم بأذني هاتين، وهم يتدارسون مع المدير مسألة قتلكم جماعيا. على الأقل، سترتاحون وتريحون. .. ودقّ قلبنا بعنف: الله أكبر على الخبر السعيد. لماذا ترتعش فرائصنا خوفا، وقد كنّا نتمنّى الخلاص سنين خلت؟ هل هذا هو ما يسمّونها غريزة البقاء؟
في هذه الفترة، والحفر على أشدّه، دخل علينا شهر رمضان، فارتأى القتلة الطيبون تأجيل أشغالهم المجرمة إلى ما بعد خروج الشهر الأبرك، احتراما منهم للدين الحنيف. وفي أثناء ذلك، والناس في مغربنا يصومون النهار ويقومون الليل، والعلماء الأجلاء القادمون من كل فجّ عميقٍ يتنافسون في إبراز غزارة علمهم في إطار الدروس الرمضانية، ويسهبون في الحديث عن الرحمة والبرّ والتسامح، جرت مياه كثيرة تحت جسور الصيام، وذلك حين مكر الله مكرَه وأبطل مكرهم الذي تزول منه الجبال، حيث قضى سبحانه أن يُبطل خطتهم ويفضحهم على رؤوس الأشهاد بافتعال أحداث ما دارت لهم أبدا بحسبان. وكان من بين هذه الأحداث المتتالية:
تسريب عدة رسائل من السجن، تصف لعائلات المعتقلين الحالة المأساوية التي عليها أبناؤها. هروب أفراد من أسرة الجنرال محمد أوفقير من معتقلهم ببير الجديد، وتمكّنهم من وصف معاناتهم لوسائل الإعلام الوطنية والعربية والدولية. تبنّي سجناء سياسيين (من منظمتي إلى الأمام و25 مارس) المعتقلين في السجن المدني في القنيطرة الدفاع عن نظرائهم في تازمامارت، وكان في مقدمتهم المناضل الكبير أبراهام السرفاتي. طرح المناضل التاريخي محمد بن سعيد أيت يدير سؤاله المشهود في البرلمان عن معتقل تازمامارت، بعدما استعمل أزلام السلطة كل ما في وسعهم لثنيه عن طرحه. هبّة المنظمات الحقوقية الوطنية (الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان) ومنظمة “لاصدوم” في فرنسا، والمنظمات الدولية (العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش وغيرهما) لاستنكار ما يحدث من تقتيل همجي في تازمامارت. جهود نانسي الطويل، زوجة المعتقل امبارك الطويل، التي أقامت الدنيا ولم تقعدها في أميركا لأجل استكشاف مصير زوجها. الدور المحوري الذي لعبته كل من عائلات النقباء، بلكبير وحشّاد وغلول، في استجلاء الحقيقة المأساوية. جهود إلهام الرايس بنت المرحوم محمد الرايس في التعريف بالسجن البشع. تبنّي إذاعة فرنسا الدولية الدفاع عن مصير المعتقلين. بعث رسائل عديدة من شخصيات سياسية وفكرية نافذة عبر العالم للمطالبة بالإفراج عن معتقلي تازمامارت. جهود كريستين السرفاتي الجبّارة في التعريف بالسجن سيئ الذكر، وإصدارها كتاباً عن تلك المأساة الإنسانية. طرح كل من الصحافيين، جان دانييل وآن سان كلير، أسئلة غاية في الدقة والإحراج للعاهل المغربي، الحسن الثاني، حينها، عن المعتقلات السرّية في المغرب. وأخيرا، وليس آخرا، القنبلة التي فجّرها الكاتب الإنساني الكبير جيل بيرو، وكانت بمثابة القشّة التي قصمت ظهر البعير، لما نشر كتابه التاريخي، بوحيٍ من كريستين السرفاتي “صديقنا الملك”.
كان هذا “الكتاب ـ القنبلة” من الأسباب الكبيرة التي عجّلت بإطلاق سراحنا، عندما فضح المستور بكيفية مثيرة صادمة، أربكت النظام المغربي، وجعلته يهرُب إلى الأمام، ويمعن في النكران الشديد عبر تعبئة المغاربة، ودعوتهم إلى استنكار وطني واسع، دعاهم فيه إلى كتابة العرائض وتنظيم منصّات خطابية لتجريم الكاتب وتهديده. ولكن هيهات هيهات… فقد كانت فرحتي العارمة لا توازيها سوى فرحة من كانت حظوظه متساوية بين الجنة والنار، فبشّره الله بالنعيم.
لقد سمعتُ جيل بيرو من قاع زنزانتي ذات ليلة، وهو يتحدّث عن محنتنا، ويلح على انتشالنا من قبورنا الباردة، فكانت الإشارة المتعارف عليها في المعتقل كلما أراد أحدُنا أن يطلب الصمت لبثّ خبر مصيري: ـ أبشروا، أيها الأصدقاء، وتشبثّوا بالأمل. سمعتُ كاتبا فرنسيا يدعى جيل بيرو، يدافع عنّا بعدما نشر كتابا سمّاه “صديقُنا الملك”. ارتج العنبر بهرج ومرج، وغمر الفرح العظيم صدور حتى من كانوا مرشّحين للموت الوشيك.
منذ تلك الساعة، انكببت على “الترانزستور” الصغير الذي كان صديقي المرحوم عبد الرحمن صدقي قد اشتراه بأضعاف أضعاف ثمنه من الحارس “السر الفر” وأعطاه لي لمواكبة الأخبار بالعربية والفرنسية. وأقسمت بيني وبين نفسي، لو كتب الله لي النجاة، أن أبحث عن هذا الكاتب لأجل شكره، ولو كان يسكن في تخوم الصين. وشاء العلي القدير أن أخرج شبه حيٍّ من رحم الموت، فبررت بوعدي، وكاتبتُه في شهور الحرية الأولى، فأجابني بكل أريحيةٍ، وأرسل إلي عبر البريد رسالة طويلة، مع نسختين من كتابه موقعتين باسمه. وكنت جد محظوظ لما زرعت الأقدار الرحيمة في طريقي معارف عدّة شملتني بعطفها، وحدبت عليّ كثيرا، حتى أعادت إلي آدميتي وثقتي بنفسي. شخصيات مغربية وأجنبية أعجز لكثرتها عن ذكر اسمها، جازاها الله خيرا وإحسانا. منها إنسان فرنسي نبيل، هو الكاتب والصحافي الكبير، إينياس دال، الذي كان مديرا لوكالة الأنباء الفرنسية في تلك الفترة الحاسمة. فجمعتني وإياه صداقة متينة، وعندما سافرت إلى فرنسا مرّة، أبى إلا أن يحقق لي حلما طالما راودني في المعتقل وبعده، لقاء جيل بيرو. وهكذا سافرنا إلى قريته الصغيرة في منطقة نورماندي، حيث كان إنزال الحلفاء الضخم في الحرب الكبرى الثانية، فوجدناه ينتظرنا على عتبة بيته بابتسامة كبيرة وحفاوة بالغة، وإن كانت آثار حزن عميق عالقة بملامحه منذ وفاة ابنه في حادثة سير مروّعة.
قضينا يوما كاملا في ضيافته، لم نكف فيه عن الكلام عن كل الأحداث والوقائع التي هزّت المغرب آنذاك. وبطبيعة الحال، قدّمت له شكري وشكر أصدقائي على كل ما قام به من أجلنا، فكان يستصغر عمله على طريقة الكبار، ويسألني بين حين وآخر: ألا تعتقد أني كنت قاسيا شيئا ما على بعض المسؤولين في المغرب؟ … فكنت أترجم له ما كنت أزعم أنه بيت شعري من قصيدة كنت قد نظمتها في تازمامارت: لو علمتَ يا جيل من جورهم نزرا/ دوّنت عنهم لا كتابا بل الكُتبا… فكان يتكلم برزانة ويبتسم بخجل، ووجهه المفرط البياض لا يزداد إلا تورّدا واحمرارا.
وما زلت أذكر، ونحن في حديقة منزله، نغتنم انقشاع السحاب وننعم بشيءٍ من دفء شمس الخريف، أني رأيت بجنبه كلبا ممدّدا من تلك الكلاب التي تدرك من أول نظرة أنها من سلالة عريقة في البؤس والهوان، حيث كان أعجف بادي الهزال مبلّل الشعر زائغ النظرات، كأنه لا يتوقع من حوله إلا الشر المستطير، فسألتُه عنه مستغربا، فأجابني وقد سرى في عينيه بريق هادئ من الحنان: إنه كلب ضالّ تبنّيته بالأمس بعدما وجدته في حالة مزرية من المرض والجوع. .. فحدّثني هامس خبيث: لعله كلب مغربي “حرّك” مع صاحبه الذي مات غرقا، فكتمتها في نفسي ولم أبدها له. ثم قلت بيني وبين نفسي: كم هو عظيم هذا الرجل الذي ينقذ البشر والحيوان.
ولمّا غابت الشمس في السحب الداكنة، وشرعت بعض قطرات المطر تُنذر بقدوم عاصفة، انتقلنا إلى شرفة الطابق الأول لتناول الغذاء، وكانت سلالم بيته على شكل لولبي، بطن جدارها اليميني بخزانة خشبية على الشاكلة نفسها، وكانت تحتوي على مؤلفات وكتب لا حصر لها ولا عد، فعلاوة على خزائن كتبه الكبيرة المبثوثة في كل أركان بيته، استغربت كيف أن أي مكان في بيته لم ينج من غزو الكتب، فتجرّأت وسألته بسذاجة اقتلعت بسمة من فمه: هل قرأتَ كل هذه الكتب سيد بيرو؟ فأجاب مداعباً: إنها فقط من آليات العمل.
ودّعنا الرجل في المساء، بعدما أهداني كتباً له. وكانت تلك أول وآخر مرّة ألتقي فيها هذا الرجل العظيم الذي كان من بين الأشخاص الرئيسيين الذين انتشلونا، بعد الله، من حفر جهنم. نم قرير العين، يا جيل، فلن ننسى فضلك علينا أبداً ما حيينا.