فوسفاط ومحطة حرارية ورمال ذهبية.. آسفي «مهد الإنسان» تتحوّل إلى مقبرة للتنمية
توجد مدينة آسفي على ساحل المحيط الأطلسي للمغرب، هي مدينة غير فوسفاطية، وباطنها الأرضي يتعرى باستمرار بسبب عوامل الجفاف واجتثاث الغابات التي تبيعها المندوبية السامية للمياه والغابات في المزاد العلني، وضواحيها الفلاحية تُعاني الكساد والندرة في المياه وعامل التصحر، ونظرا إلى ذلك هاجر الآلاف من سكان البوادي صوب المدينة بحثًا عن لقمة العيش في ظاهرة تُعرف بـ”الهجرة المناخية”.
لكن في مقابل ذلك، تُعرف آسفي بمحيطها الساحلي المطل على جزيرة فونشال بحوالي 800 ميلاً، (وفونشال هي الجزيرة التي ولد بها اللاعب الشهير “كريستيانو رونالدوا)، هذا الساحل خلف ثروة سمكية كبرى منذ مطلع السبعينيات سرعان ما تقلص بسبب التلوث البحري بفعل النفايات السائلة لمركب الفوسفاط، التي تُرمى في البحر من خلال أنبوب مباشر لا يتوقف. وعلى امتداد جبال “إيغود” الشاهقة وقبائل بني أحمر البسطاء واللطفاء على سيرة أجدادهم، عرف العالم مهد الإنسان العاقل، الذي عمر هناك لقرون غابرة، في اكتشاف هز مقالع “الأنتروبولوجيا” ودارسي التاريخ.
رمال “ذهبية” تجلب الأطماع
لآسفي عشاقها من يعملون في مقاولات العقار، حيث إن رمالها “الذهبية” جلبت على آسفي أطماع “مافيات الرمال”، الذين يتهافتون ويتسابقون على ساحلها من أجل استنزاف رمالها الممتدة نحو الصويرية القديمة، والمساهمة بشكل بالغ في التعرية التي يعرفها الساحل. في هذا السياق يقول “م.ر”، فاعل جمعوي في المنطقة إن الرمال تذر عائداتها على أصحاب المقالع حوالي 60 مليون سنتيم في اليوم الواحد، الذي يشهد ضعف الرواج والإقبال، وزهاء 120 مليون سنتيم في اليوم الجيد”. فبذلك، سعى عدد من المنتخبين والسياسيين، إلى الحصول على رخص لهذه المقالع، وبعدها أسسوا بفضل عائداتها خرائط انتخابية، ونفوذ بالغ وثراء سريع، وأسسوا مئات الجمعيات الوهمية يضمنون بها ولاءات البسطاء من المواطنين، وتكون جماعة “المعاشات” نموذجًا صارخا في هذا التناقض الاجتماعي والسياسي الفظيع، يقول المتحدث ذاته.
في الآونة الأخيرة انتبه الرأي العام إلى لائحة مستغلي مقالع الرمال، إذ في مدينة آسفي يوجد منتخبون وشخصيات نافذة تستفيد من أموال “صناديق سوداء” تكتسي غطاء الريع وتجمع بين “السياسة” و”التملك العمومي”، كما كشفت الوزارة أن منطقة عبدة ودكالة تتوفر على زهاء 147 مقلعا مرخصا له، بينما تظهر أرقام غير رسمية أن أصاحب المقالع المرخصة يفتحون مقالع عشوائية، وصولا إلى الغابات الساحلية والشواطئ.
الـOCP في آسفي .. نعمة أم نقمة!
بالرجوع إلى تاريخ الفوسفاط المغربي، فإنه اكتشف في ثلاث مناطق جغرافية بالمغرب، العيون وبوكراع وخريبكة وكنتور فقط، حيث في عام 1908 سيكتشف الفرنسيون الفوسفاط بالمغرب من خلال عالم الجيولوجيا “بريف آثار”، إذاك سيدعو الجنرال الليوطي الفرنسي إلى القيام بعملية تنقيب واسعة. وبعد ذلك سيعرف المغرب أنه يتوفر على 75 في المائة من الاحتياطي العالمي للفوسفاط، برقم معاملات سنوي بلغ 1,3 مليار دولار.
وفي عام 1972 لا أحد سيعرف لماذا قرر الراحل الحسن الثاني، إنشاء هذا المصنع في مدينة آسفي الساحلية، والتي باطنها الأرضي لا يتوفر على “الفوسفاط” بعدما جاء لتدشينه رفقة شاه إيران محمد رضا بهلوي.
وفي سنة 2012، سيقرر المكتب الشريف للفوسفاط، وهو المصنع الذي يقيم شبه “مستعمرة” كما يصفونه هنا السكان، الذين رفضوا بيع أراضيهم له، جنوب المدينة بـ7كلم، تفكيك أنابيب ضخمة مزروعة أسفل الأرض تحمل مادة خطيرة اسمها “الأمونياك” ويمتد طولها حوالي 12 كلم، عبر “المدينة القديمة” وعمل بها المكتب في هذه المدينة منذ سنة 1973 وظل يخزنها قرب شاطئ المدينة طيلة هذه المدة في ثلاثة محطات ضخمة، القدرة الاستيعابية لكل واحدة منها تبلغ 5100 متر مكعب.
لكن إنشاء هذا المصنع، انعكس سلبا على الاقتصاد المحلي للمدينة، يقول “عمر الزيدي”، عضو الائتلاف المغربي للعدالة المناخية، “بينما كان من المفترض أن يؤدي المصنع ضريبة لمجلس المدينة نسبتها المئوية تصل إلى 40 أو 50 في المائة من عائداته التي يساهم في إنتاجها موقع “آسفي” بفضل تخصصه في إنتاج أسمدة الفوسفاط”، فإن ذلك لا يعطي أيّ دفعة تنموية واضحة للمدينة”.
المصدر ذاته مضى في حديثه قائلا: “دخل مكتب الفوسفاط في برنامج تنموي وبيئي كان من المفترض أن ينتهي في سنة 2004، لذلك لا نعرفُ إلى الآن، إلى أيّ حدّ استطاع الوفاء بالتزاماته”. وعن تلوث المدينة، يقول الزيدي، “نحتاج إلى دراسات علمية وإحصائيات في الموضوع والمكتب الشريف للفوسفاط لا يقدم أرقاما في هذا الإطار”.
وفي خضم انبعاثات لغازات كيماوية بحر يوليوز الماضي بآسفي من مصنع الفوسفاط تسببت في اختناقات للعشرات من المواطنين، أمام هذه الواقعة طالب نواب برلمانيون عن حزب العدالة والتنمية، كتابة الدولة المكلفة بالتنمية المستدامة بالتدخل وإيفاد لجنة من المختبر الوطني قصد قياس نسبة تلوث هواء المدينة. وبعث كل من البرلماني حسن عادلي وإدريس الثمري ورضا بكمازي، ملتمسا إلى كتابة الدولة المكلفة بالتنمية المستدامة لدى وزير الطاقة والمعادن، وجاء في الملتمس المذكور أن هذه الحوادث تتكرر باستمرار، دون أن يقوم المسؤولون بالمجمع الشريف للفوسفاط بأية إجراءات لوضع حد لهذه المعاناة، علما أن إدارة هذه المؤسسة سبق أن وعدت باعتماد تكنولوجيا حديثة لمعالجة تلك الانبعاثات، وهي الوعود التي لم ير المواطن لها أي أثر في الواقع لحد الآن، داعين إلى اتخاذ ما يلزم من تدابير وإجراءات عاجلة لوضع حد لمعاناة الساكنة.
عبدالإله الخلفي، مستشار جماعي سابق بجماعة أولاد سلمان، التي تجاور مصنع كيماويات المغرب، يقول إن المكتب الشريف للفوسفاط ساهم بشكل كبير في تدهور أوضاع الفلاحين الصغار بسبب التلوث الذي أدى إلى نفوق المواشي وتضرر المحاصيل الزراعية، فإن كان يُصدر الأسمدة الفلاحية لبقاع العالم، فإنه لا يجود على فلاحي المنطقة بكيلو غرام واحد منها. وذكر المتحدث ذاته، أن المكتب الشريف للفوسفاط يرفع شعارات حول التنمية، لكن جل ما يفعله هو التلوث، حيث إن المساعدات التي يقدمها تظل غير كافية لأقرب جيرانه، فما بلك بساكنة آسفي.
ومن جهته، أوضح حسن عاديلي، برلماني عن حزب “العدالة والتنمية” أن المكتب الشريف للفوسفاط توقف منذ سنوات طويلة عن تقديمه للدعم المالي لفائدة المجالس المنتخبة، مشيرا إلى أن هناك عدة برامج عمل وشراكات بين المكتب الشريف للفوسفاط ومجلس المدينة، لكن للأسف الشديد يتسم تنزيل تلك الشراكات بالبطء الشديد، فضلا عن كون المكتب لم يلتزم بتنفيذ أغلب الشراكات لحد الآن. وأضاف البرلماني عن مدينة آسفي وعضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية “إذا أردت رأيي الخاص، فأنا لم أعد أراهن على المكتب الشريف للفوسفاط لمساهمة الحقيقية في تنمية المدينة، فتدخلاته محدودة وبسيطة ولا ترقى لما يفترض أن تقوم به مؤسسة من هذا الحجم”.
جبال “إيغود” تٌدهش كبار الأنثروبولوجيا
إذا قال أهل آسفي إن مدينتهم انتهت تنمويًا وباتوا يُغرّدون على صفحات التواصل الاجتماعي غضبَا ويأسا، بعدما تلاقت كل لعنات التنمية في آسفي بسبب الإخفاقات التنموية وسوء التدبير وتفشي الهدر المدرسي والبطالة والرشوة في القضاء والإدارات العمومية، كنموذج مُصغر للمغرب، فإن القليل من السياح والزوار، انتبهوا لثروة آسفي الجمالية.
غير أنه في يونيو من عام 2017، ستتجه الأنظار إلى قبيلة مهمشة وفقيرة تقع على بعد مدينة آسفي بحوالي 60 كيلومترا شرقا، مرورا بجماعة “ثلاث إيغود” إلى جبالها المكسوة بالاحمرار وتغطيها من الأعلى سماء ناصعة الزُرقة، بعد اكتشاف أقدم بقايا عظام إنسان من قِبل باحثين مغاربة من المعهد الوطني لعلوم الآثار وباحثين ألمان، وهي عبارة عن جمجمة وفكّ سّفلي وجانب من فك علوي، وأجزاء من أعلى الرقبة، إلى 315 ألف سنة؛ وبذلك يكون موقع جبل “إيغود” يضم أقدم إنسان عاقل HOMO SAPIENS.
حينما التقت الجريدة بسائحة فرنسية، أول ما شدّ انتباهها، مغارات ضخمة على بعد 27 كلم شمال المدينة، حيث منطقة “الكاب أو البدوزة” ولفت انتباه هذه الفرنسية المهتمة بالتضاريس والأنثروبولوجيا، مغارة “الكرعاني” ومغارة “شركركار”، الغنية بكنوزها كالسهام والفخار الذي يعود تاريخه لقرون غابرة، فهذه الكهوف يبلغ طول الواحدة منها حوالي 650 مترًا تجاورها تلال ووديان طبيعية، السيدة ذاتها تقول “لا أحد سيعرف ماذا كانت ستكون عليه مدينة آسفي بدون مركب كيماوي للفوسفاط.. وكيف كانت ستمضي في مصيرها المثير للاهتمام بعيدا عن التلوث”.
مشاريع الملك لا أثر لها.. بعد سنوات عجاف!
على غرار تعثر مشاريع ملكية في الحسيمة، وما تلاها من إعفاءات لمسؤولين في الحكومة، هناك مشروع سكني ضخم في مدينة آسفي، هذا المشروع أطلق عليه اسم “برج الناظور”، لكنه ظل متوقفًا منذ أن دشنه الملك سنة 2008، إلى حدود الآن.
عدم افتحاص هذه المشاريع جعل عددًا وفيرا من المسؤولين المحليين في غنى عن المساءلة، وبعضهم يعرف جيدا أن مثل هذه المشاريع “الملكية” ترصد لها ميزانيات فلكية، حتى دون التفكير من أين ستأتي! ولن يستطيع أحد منهم القول بأن مشاريع الملك يجب أن تكون مقرونة بميزانية مضمونة، لذلك تذهب مهب الرياح، يقول أحد المسؤولين في الجماعة الترابية رفض الكشف عن اسمه.
مع هذا المشروع انتهت الصلاحية القانونية لرخصة التجهيز المسلمة إلى شركة “العمران”، إضافة إلى اختفاء منتزه حضري كبير قدم للملك في التصميم الأصلي يمتد على مساحة 10 هكتارات، قبل أن يتم حذفه في التصميم المعدل وتسلم بشأنه بلدية آسفي شهادة التسليم، رغم مخالفته للتصميم الأصلي المقدم للملك، والذي وافقت عليه جميع السلطات بما في ذلك البلدية والعمالة والوكالة الحضرية. بينما المدينة تعاني التعثر التنموي والتلوث وعزوف السياح والمستثمرين، وركود الاقتصاد المحلي.
مشاريع صناعية جديدة.. لكن لصالح من؟
أجمع عدد وفير من الفاعلين بمدينة آسفي، في تصريحات متباينة لـ “أخبار اليوم” أن نموذج إنشاء المركب الكيماوي في آسفي منذ مطلع سنة 1973 وما خلفه من تدهور تنموي لمدينة آسفي، هو ذاته ما سينتجه المشروعان الجديدان، “ميناء تجاري” و”محطة حرارية” تعمل بالفحم الحجري.
ورغم اللغو واللغط اللذان مازالا يُلاحقان مشروع المحطة الحرارية في مدينة آسفي، بسبب ما يقول خبراء وفاعلون إن عملها بالفحم الحجري يُشكل خطرا على البيئة وانتهاكا فظيعا لتعهدات والتزامات المغرب خلال القمتين للتغيرات المناخية “كوب 21″ و”كوب 22″ بمراكش، فإن المشروع يشهد تعثرا من نوع آخر، على مستوى ما يُعرف بـ”فضيحة الغش” التي وقعت في الميناء الجديد، بعد انهيار رصيف الفحم الحجري قبيل بنائه بأسابيع قليلة بسبب تصدعات وشقوق ضخمة.
وتبلغ القيمة الإجمالية لبناء هذه المحطة الحرارية 23 مليار درهم، غير أن بناءها علق عليه الكثير من أبناء المدينة أملا في تحسين ظروفهم الاجتماعية وإنقاذهم من شبح البطالة، لكن ما حدث لم يكن متوقعا، حيث استعانت مجموعة “سافييك”، المكلفة ببناء المشروع بيد عاملة من دولة الفيليبين.
وفي خضم بناء المشروع لقي أزيد من 9 عمال حتفهم جراء حوادث شغل داخل المحطة الحرارية لآسفي، تبين أن هؤلاء العمال يعملون في ظروف قاهرة وبدون أدنى درجات السلامة، وفضحت شهادات الناجين من العمال في عدة حوادث متباينة حقائق مثيرة حول ظروف العمل، وأكدوا أن المسؤولين الكوريين للشركة يجبرون العمال المغاربة على صعود مدخنة المحطة الحرارية على علو 150 مترا، في مصعد يحمل تحذيرا بكون طاقته الاستيعابية هي 8 أشخاص، في حين يتم تكديس اليد العاملة المغربية كـ«السردين» بمجموعات لا تقل عن 14 عاملا. 6من المستفيد؟
وبالرجوع للمحطة الحرارية، فإنه تم توقيع اتفاقية “شراء وتوريد الكهرباء” من خلال محطة آسفي لمدة 30 عاما بين (المكتب الوطني للكهرباء والماء) ومجموعة “سافييك”، ويتعلق هذا الاتفاق باستثمار يبلغ 2.6 مليار دولار وسيتم بناؤها من قبل شركة “دايو” الكورية الجنوبية للهندسة، بغرض إنتاج 1386 ميكاواط من الكهرباء مقسمة على شطرين وستستقبل محطة آسفي ما يزيد عن 3 ملايين طن من الفحم الحجري سنويا عبر الميناء الجديد. وتفيد معطيات الجريدة، أن معدل إنتاج الكهرباء المحصل عليه من المحطة الحرارية لآسفي، ستقوم مجموعة “سافييك” ببيعه للمكتب الوطني للكهرباء والماء على مدى 30 عاما، وفقا للعقد الذي جمع الطرفين، وذلك باعتماد نظام الإنتاج المستقل (IPP) .
وفي تعقيبه على الموضوع، قال عمر الزيدي، عضو الائتلاف المغربي من أجل العدالة المناخية، إن المغرب يهدي طبقا من الذهب للشركات متعددة الجنسيات، حيث إنه تخلى عن السيادة الطاقية، مشيرا إلى أن ثمن بيع الكهرباء من المجموعات الكبرى للمكتب الوطني للكهرباء لم يتم تحديده في أيّ مرحلة، مما قد يكلف المغرب والمغاربة دفع أضعاف الأسعار الحالية المتعلقة باستهلاك الكهرباء.