عود زرياب.. رسالة العرب من الأندلس إلى العالم

 عود زرياب.. رسالة العرب من الأندلس إلى العالم

سنة 711 للميلاد، لم يكن يعلم موسى بن النصير ولا طارق بن زياد أنهم على وشك تدشين حدث حضاري جلل، ليس فقط في تاريخ الدولة الأموية، بل في تاريخ البشرية جمعاء. فلعلها نقطة الضوء الوحيدة في تاريخ الدولة الأموية، التي ستنقذ ما صنعته من مآسي سياسية طيلة امتداد حكمها، أو ربما حتى قبلها، في عصر الخلافة الراشدة، وما تسبب فيه مؤسسها معاوية بن أبي سفيان من فساد سياسي، “حتى أجبر الحسن بن علي عن ترك الخلافة وتسليمها له”، وخلق فتن ما زالت آثارها ممتدة إلى عصرنا هذا.

لكن قرار الخليفة الوليد بن عبد الملك لوالي المغرب موسى بن النصير شكل حدثا فارقا في التاريخ بدخول شبه الجزيرة الإيبيرية، وقيام الأندلس كحضارة “استثنائية” في التاريخ، غير الحضارات التاريخية الأخرى، كالحضارة السومرية في بلاد الرافدين، أو حضارة مصر القديمة (أو ما يصطلح عليها بـ”الحضارة الفرعونية”، وهي التسمية الأكثر شيوعا رغم عدم صحتها تاريخيا)، أو الحضارة الإغريقية، الرومانية، الصينية (…). الأندلس لم يكونوا سكانها عربا ومسلمين فقط، بل كانوا أيضا من أقليات عرقية ودينية أخرى. إنها حضارة قامت على أسس فنية وفكرية خالصة. فقد وضعوا اللغة العربية هي اللغة المتداولة (لغة الحكي اليومي) بين الأندلسيين، أما في ما يتعلق بالفنون، كان الفن المعماري، بالإضافة إلى الموسيقى التي هي موضوع هذا المقال، قد بلغ أشده من الجمال والدقة. ولعلّ قصر الحمراء الذي لا يزال شامخا، يتحدى الزمن، وقصر الجعفرية، وجنة عريف، ومسجد الأندلس، خير شاهد على مجد سليب، ضائع، ومدينة “الزهراء”، التي قيل عنها إنها من أهول ما بناه الإنس وأعظمه شأنا، والتي لم يتبق منها إلا الأطلال، ترثي، بشكل أو بآخر، ماضيها، قبل أن يخربها ويحرقها البرابرة في “ثورة البربر”. أما في ما يتعلق بالفكر، ظلت الأندلس موطن أعلام العلم في العلوم الحقة، والفلسفة، واللغة، والفقه، كابن حزم، وابن رشد، وابن أبي باجة، وعباس بن فرناس، وابن البيطار، والإدريسي، والقرطبي، الخ.

لقد عرف الفن الموسيقي في الأندلس في عهد الأمويين نوعين من الموسيقى والغناء، يتمثلان في الغناء الشعبي والعربي، الذي نقله العرب إلى الأندلس. وظل الحال على حاله إلى حين وصول أبو الحسن علي بن نافع الموصلي “زرياب” لشبه الجزيرة الإيبيرية، قادما من بغداد. فكانت الخطوة الأولى في ازدهار الموسيقى في الأندلس، إذ مزج بين فنه الشرقي وبين الأشعار والأزجال الأندلسية، أي أنه نقل الثقافة العباسية في الشرق إلى الأندلس، ومنها إلى العالم. أسس أكاديمية موسيقية تأصل لقواعد العزف والغناء، تعد هي الأولى في تاريخ الموسيقى. إضافة إلى أكاديميته الموسيقية، أسس طريقة الغناء على أصول النوبة، التي ما تزال على قيد الحياة إلى يومنا هذا، وهي القالب الذي تتكون منه الموسيقى الأندلسية، في ما بات يعرف بـ”الطرب الأندلسي” أو “موسيقى الآلة”. فرغم ضياع قرابة 13 نوبة، لم يتبق إلا 11 نوبة (نوبة رمل الماية، ونوبة الاستهلال، ونوبة رصد الذيل، ونوبة الرصد، ونوبة الاصبهان، ونوبة الماية، ونوبة الحجاز الكبير، ونوبة الحجاز المشرقي، ونوبة عراق العجم، ونوبة العشاق، ونوبة غريبة الحسين)، بعدما كانت، في الأصل، 24 نوبة. هذا، وتنقسم كل نوبة منهم إلى خمسة ميازين (ميزان البسيط، وميزان القائم والنصف، وميزان البطايحي، وميزان القدام، وميزان الدرج). فهذا الجزء المتبقي الذي يعد أقل من النصف، يصل طوله الزمني زهاء تسعين ساعة مستمرة من العزف والغناء، تثبت مدى رقي وقوة فن الأندلس.

في علاقة الموسيقى الأندلسية بالموسيقى الغربية، نجد هذا التأثر واضحا من حيث زيادة زرياب لوتر خامس للعود، وتر كان فاتحة لصنع الجيتارة الغربية. ويتضح هذا التأثر، أيضا، الذي أدى إلى تطوير آلة الكمان من الربابة.
إن الموسيقى الكلاسيكية، “ومن أجل ألا يقع لبس في مصطلح الموسيقى الكلاسيكية لتعدد مفاهيمها”، فنقصد بها، هنا، الموسيقى الأوروبية التي سادت من القرن الـ 17 إلى القرن الـ 19، متأثرة بالفلسفة العقلانية الديكارتية. هذه الفلسفة التي تأثرت، بدورها، بفلسفة ابن رشد، ولا سيما خلال الحقبة المعروفة باسم “العصر الباروكي” (Baroque Era)، يظهر بوضوح تأثرها بالموسيقى الأندلسية، الذي يتمثل في العزف الجماعي بعشرات الآلات الموسيقية. فإذا ألقينا نظرة على “تواشي الاستهلال”، ضربا بالمثل لا الحصر، سندرك أننا بصدد سماع سمفونية أحادية اللحن، أي، لا توجد بها هارموني “harmony” أو أكوردات “chords”. كما أن الآلات تعزف نفس النوتة الموسيقية، بخلاف السمفونية القائمة على تكميل الآلات الموسيقية، لبعضها البعض، بعزف كل نوع منهما لنوتة معينة أو على مفاتيح مختلفة. لكن لمسة “التواشي” الأندلسية حاضرة بقوة في السمفونية من حيت العزف الجماعي لعدة آلات موسيقية بدون مغنى، زيادة عن الحركات الأربع للسمفونية: الحركة الأولى السريعة على نمط “sonata”، والحركة الثانية البطيئة، والحركة الثالثة على نمط “scherzo”، والحركة الختامية على نمط “rondo”. نجد في التواشي، أيضا، حركات متغيرة من البطيء، إلى المتوسط، إلى السريع. كما أن هناك تأثير وتأثر بين الموسيقى الأندلسية والموسيقى العربية، ولا سيما الموسيقى الصادرة من مصر والعراق والشام. فبعد وصول الموسيقيين المشرقيين العرب للأندلس، بدأت فترة جديد لشخصية موسيقية جديدة في المغرب العربي والأندلس، متطورة عن أصول موسيقية شرقية، خصوصا في ما يتعلق بضروب الإيقاع والمقامات، لتصنع شخصية موسيقية أندلسية محضة طيلة فترة حكم الدولة العباسية. ولعل من أجمل ما أبدعته الأندلس في الموسيقى والغناء والشعر، هو الموشح. فالموشح الأندلسي هو فن غنائي شعري ظهر في الأندلس، خلال القرن الثالث للهجرة، تميز بتعدد الأوزان والقوافي فيه، كحركة تطويرية لكسر نمط ورتابة القصيدة الشعرية الكلاسيكية المعروفة بوزنها وقافيتها الواحدة. كما أدخلت عليه اللغة العامية إلى جانب اللغة العربية، بخلاف القصيدة التي تعتبر اللغة العربية من ركائزها. وقد عرف شيوعا كبيرا، نتاج طبيعي لما عرفته الأندلس من تقدم فني وفكري، حتى بلغ صداه إلى المشرق، وظل لما يزيد عن ألف عام بعد نشأته يتواتر حتى آواخر القرن الـ 19. إلى أن قام بعض الملحنين المصريين، في الحقبة المعاصرة، بمهمة تأليف تواشيح جديدة، غير التي ورثناها عن الأندلس، كمحمد عثمان، وعبد الرحيم المسلوب، إضافة إلى العبقري سيد درويش، الذي لحن 12 موشحا ليكون آخر من طور الموشح، بل آخر من لحنه من مطلع القرن العشرين حتى اليوم.

كما لا يمكننا التحدث عن التأثر بين الموسيقى الأندلسية والموسيقى الشرقية، على حد سواء، دون ذكر “الفلامنكو”، الذي هو ربما أكثر نوع موسيقي تأثر بالموسيقى الأندلسية. بدءا بالتسمية، التي ترجح أغلب المصادر أن معناها لا يخرج، في الأصل، عن “فلاح منكوب” أو “فلاح منكم”، أي، الفلاحين الموريسكيين والغجر، الذين أمسوا بلا أرض وأخدوا الـ”فلامنكو” كفن وموسيقى وغناء ورقص تعبيري عن آلامهم ومعاناتهم. فرغم تأثر “الفلامنكو” بالموسيقى البيزنطية والهندية القديمة، إلا أن للموسيقى الأندلسية النصيب الأكبر من حيث الغناء. ذلك أن” الفلامنكو” يعتمد على الحنجرة في الغناء، إضافة إلى تأثر جيتار “الفلامنكو” بآلة العود، والطابع الشرقي للفلامنكو في التأليف. كما أن كلمة “أوليه!” (! olé)، التي تتردد كثيرا في “الفلامنكو” عند بلوغ النشوة الطربية، تعني، في الأصل، “الله”، التي هي تعبير، أيضا، عند العرب عن بلوغ الشخص لنشوة الطرب.

في ختام هذا المقال، لا يمكنني إلا أن أقول؛ إن حضارة الأندلس هي حضارة ليست كغيرها من الحضارات، لما بلغته من فكر وإبداع شق أجواز الفضاء في الطب، والفلك، والهندسة، والفلسفة، والموسيقى، والعمران، الخ. ولعل ما تركته من إرث فكري وفني، ليس إلا انعكاسا بسيطا، يسيرا، لما كانت عليه. لتطوى، بذلك، صفحة مجد حضارة عظيمة، سقطت بعد محنة ابن رشد، بعد حرق كتبه. فنهضت أوروبا، إذ ذاك، بعد استنشاقها دخان تلك الكتب.

هيئة التحرير

أخبار ذات صلة

اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدة الجهة24 لتصلك آخر الأخبار يوميا