هذا التحقيق، يكشف لأول مرة صور أقمار اصطناعية، وثائق دولية، شهادات ميدانية، ومعطيات رسمية، يكشف الوجه الخفي لصناعة الإسمنت بآسفي: كيف تحوّل طمر رماد الفحم إلى ممارسة يومية خارج المعايير الدولية؟ من سمح بدفن السموم قرب السكان؟ ولماذا ظلّ هذا الملف الخطير بعيدًا عن أعين الرأي العام رغم آثاره الممتدة على الفرشة المائية، الفلاحة، والصحة العامة؟ في ثلاثة أجزاء، تفتح صحيفتا “الجهة”24 “وتراند نيوز” في تحقيق مشترك ملفًا مسكوتًا عنه، حيث تتقاطع مصالح المال، وصمت السلطات وتغول اللوبيات، ومعاناة سكان يعيشون فوق رماد لا يختفي… بل يتسلل ببطء إلى حياتهم.منذ عام 1991 حيث شيد مصنع “إسمنت المغرب” في جماعة آيير ضواحي آسفي، بدأت معالم رقعٌ شاحبة في التضاريس الفلاحية تنمو بينما جفت ينابيع المياه والآبار ونفقت المواشي وبدأ الفلاحون الصغار في إحصاء خسائرهم فيما فضل الكثيرون منهم الهجرة نحو المدينة بحثا عن فرص الشغل ولقمة العيش، لقد كان أهل القرى المجاورة للمصنع يُشاهدون أمامهم “وحش الأسمنت يكبر” وتنمو مداخله المالية بينما هم يتجرعون أمراض الربو والحساسية ونفوق المواشي.منذ تسعينيات القرن الماضي، بدأ الكابوس ينمو تدريجيًا على أعتاب جماعة آيير التي لم تحصد من “لوبي الأسمنت” إلا “الخراب”، يقول مستشار جماعي لـ”الجهة24” طلب عدم كشف أسمه.إلى غاية يونيو الماضي من سنة 2025، حققت “اسمنت المغرب” 2.192 مليار درهم، مسجلة نموًا بـ10.1% مقارنة بنفس الفترة من 2024، فيما بلغ الفائض الإجمالي للاستغلال (EBE) 911 مليون درهم، بارتفاع 18.1%، وذلك وفقًا للتقرير السنوي للشركة المنشور على موقعها الرسمي. أرض الثروة والكسادمن خلال رصد عبر صور الأقمار الاصطناعية، كانت الكارثة التي تخفيها شركة الأسمنت بآسفي، إذ أظهرت هذه الصور الحديثة بؤرًا من “رماد الفحم الحجري” تسببت، نظرا “لشروط التخزين العشوائية المخالفة للمعايير الدولية في طمر رماد الفحم” للتغيير في غطاء الأرض داخل مواقع الطمر ومكبات صناعية، مع امتداد لتلوث بصبغة رمادية في محيطها. هذه الصور تُظهِر اختفاء غطاء نباتي وانتشار مَساحات مفتوحة ملوّنة تدلّ على تراكُم مواد غير طبيعية وأخرى سامة، وتُحيط بهذه البقع منازل سكنية ومسجد، ووفقًا للمعاينة الحية، ظهر مواطنون بجانب مواقع الطمر المفتوحة، وهو ما يؤكد بالملموس، أن شروط التخزين والطمر لم تكن كافية لحماية الفرشة المائية والتربة الزراعية المجاورة.ووفقًا لوثيقة صادرة عن البنك الدولي، وهي المؤسسة الدولية التي انخرطت مع المغرب في شراكات متعددة ومشاريع وخطط مشاريع بيئية، الصادرة عام 2007، تشدد من خلال “إرشادات البنك الدولي للبيئة والصحة والسلامة الخاصة بمعالجة الفحم الحجري” على أن مرحلتي التخزين والطمر تمثلان من أكثر مراحل السلسلة خطورة من حيث التأثيرات البيئية والصحية، ما يفرض إخضاعهما لضوابط صارمة.بينما في موقع آسفي، التابع لأسمنت المغرب، تظهر الوقائع أننا بصدد كارثة بيئية غير مسبوقة، أمام أنظار السلطات والمؤسسات التي اكتفت بالصمت المريب، وتؤكد وثيقة “البنك الدولي” أن تخزين الفحم يجب أن يتم داخل منشآت مصممة للحد من تطاير الغبار والاشتعال الذاتي، عبر تقليص ارتفاع الأكوام، ورشها بالمياه أو تغطيتها، وعزلها عن مصادر الحرارة، مع تجهيز مواقع التخزين بأنظمة تصريف محكمة لجمع المياه الملوثة ومنع تسربها إلى التربة والمياه الجوفية.أما فيما يخص الطمر، فتشدد الإرشادات على أن التخلص من الرماد، الخبث، الحمأة، والنفايات غير القابلة لإعادة التدوير لا يجوز إلا داخل مطارح مرخصة ومهيأة وفق الممارسات الصناعية الدولية الجيدة، مع توفير عوازل أرضية غير منفذة، وأنظمة لجمع العصارة، ومراقبة طويلة الأمد لمنع تلوث المياه الجوفية أو انبعاث الغازات. كما تحذر من طمر النفايات التي تحتوي على معادن ثقيلة أو خصائص سامة دون معالجة مسبقة، وتوصي بإعطاء الأولوية لإعادة الاستخدام والتدوير متى كان ذلك ممكناً تقنياً وبيئياً، باعتبار الطمر خياراً أخيراً لتفادي المخاطر الممتدة على صحة الإنسان والبيئة المحيطة، لكن وبفعل شراكة ممتدة بين “اسمنت المغرب” و”المحطة الحرارية لآسفي متعددة الجنسيات” يجري اعتماد طمر رماد الفحم، كإجراء روتيني يومي، قبل أن يجري نقل هذا الرماد في شاحنات “عادية” من المحطة الحرارية إلى “شبه مطرح عشوائي” تابع لشركة “أسمنت المغرب” وتمر هذه الشاحنات وسط المدينة وأحيانا عبر دواوير وأمام مدارس قروية، فيما يظل غبار الفحم في أغلب الأوقات يتطاير على مرأى المواطنين.الأبحاث العلمية والمراجعات المتخصصة تشير إلى أن رماد الفحم وفضلات احتراق الفحم (Coal Combustion Residuals — CCR) يمكن أن يحتوي على معادن ثقيلة (مثل الرصاص، الزئبق، الكادميوم، الأرسين)، وأيونات قلوية، ومركبات يمكن أن تُذوب وتسرِب إلى المياه الجوفية أو تربط بالتربة وتُغيّر خواصها الفيزيائية والكيميائية. النتائج العملية التي أوردتها الأدبيات تفضي إلى: تدهور بنية التربة (انخفاض المسامية)، انخفاض قدرة الاحتفاظ بالماء أو تغيّرها، ونقل عناصر سامة إلى المحاصيل — ما يؤثر على السلامة الغذائية. كذلك أثبتت دراسات أن دفن أو ردم رماد الفحم بدون حواجز مانعة للتسرب يرفع خطر تسرّب الملوثات إلى الفرشة المائية المجاورة. يُتبع في الجزء الثاني تصفّح المقالاتتفاصيل زيارة الوالي مدير الهجرة إلى آسفي بسبب تهريب المخدرات